الطفل الهارب من الجنة
( قراءة في تجربة الفنان هنري روسو)


طفولة مغرقة في بساطتها تحرك فرشاة متفوقة في السيطرة و الأداء ، هذا هو الفنان هنري روسو الذي (تفرغ للرسم في سن الأربعين) لينجز أعمالا استعصت على التصنيف النقدي. (هذا الفنان الأسطورة ، كان شخصية غريبة ومحيرة ورغم كل ما كتب عنه بقي لغزا ). ربما لأنه كان حريصا على طفولته ، الأمر الذي جعله يحيطها بعزلة صارمة، لقد ضحى بعالم الكبار وفاء لصور الطفولة البكر في واحدة من أهم محاولات التمرد الفني في القرن العشرين.

لم يشرّح العالم الصاخب الذي أحاطه ولم يهندسه ولم يجرده من موضوعاته كما لم يكن معنيا بعلاقاته كما فعل السرياليون. لقد رسم جنته الخاصة بوضوح متناه و أداء محكم و بلغة لونية مشرقة . قلما حظي التاريخ بفنان احتفظ بطفولته على صورتها كما فعل هذا الفنان .
كان بيكاسو يرسم بروح طفل، لكنه كان ينظر إلينا بعيوننا، فكانت رؤاه تنطوي على نقد صارخ لعالم شوّه الطفولة . على عكس هنري روسو الذي لم تتشوه الطفولة عنده بل بقيت وربما اشتد حضورها. انه يقف على الجانب المقابل من تجربة الفنان بول كلي ذلك الطفل الذي تعثرت عيناه بالمكعبات فانصرف يرسم ميكانو المدينة .
بعض النقاد اعتبر هنري روسو من أقطاب (الأسلوب الساذج ) والذي تمثل في أعمال فنية ترسم المدينة بتبسيط مشاكس كأنها تتهمها بالسطحية والتكرار الممل والمجدب ، ولكن هنري روسو كان طفلا متعاليا على المدينة . انه اكبر من أن يضيع فيها لان في غاباته الضخمة وخيالاته المخفية بين أشجارها ما يشبع رؤيته، كما إن في أعماله توظيف سريالي بشكل أو بآخر وهو الأمر الذي ميزه عن اتباع الأسلوب الساذج .
إن ما يشدنا إلى أعماله لا يكمن في ألفة عوالمه لعين الناظر أو الخضرة المشبعة فيها بل التلاعب في المنظور ، عشقه للطبيعة جعله يبالغ في حجم عالمها مقابل حجم الإنسان ، إن عين المتلقي لا تستنكر أو تستغرب هذا الاختلال في الحجم ـإن جاز التعبيرـ بل تتعامل معه كحقيقة واقعة ولكنها مغيبة عنا لسبب أو لآخر . ليس هذا فقط بل إن السؤال الذي ينتابك عندما ترى لوحاته (كيف لم انتبه لهذه الحقيقة ؟) .. حقيقة أن الإنسان يبقى طفل الطبيعة المدلل ، فعوالمه خالية من المعاناة أو انه يضعنا أمام تفاهة معاناتنا ، يشعرنا بلا جدواها لان لوحته تمتصها بسرعة ، انه يجردنا من أدواتنا المعرفية ويشعرنا بالفراغ والدهشة أمام عالمه الطفولي الجبار.
في لوحاته يتكرس طغيان الطبيعة على المشهد (مشهده الطفولي ) فهي لدى هنري روسو الوجود الأساس أمام وجود الإنسان الثانوي، يتأكد هذا الإحساس في لوحته (عربة ) فعلى الرغم من أن اللوحة تحتفل بالعائلة التي يجمع ملامحها الألفة والارتياح، لكنه يسمي اللوحة بالعربة ربما لان العربة هي الحيز الذي جمع العائلة وبالتالي فالعربة هي صاحبة الفعل المهيمن الذي أدى إلى هذا التجمع المبهج. إن علاقاته تناقش وضع الإنسان بازاء الطبيعة وليس العكس.
تمنحنا لوحة الغجري النائم مفتاحا أخر، أنها تظهر علاقة توحد الإنسان المتمرد مع الطبيعة هذا التوحد الذي تعكسه حركة الحيوان المتعاطف مع الغجري ـ المحاط بعالم من الحزن والبعد ـ وكأنه يتضامن مع تمرد الغجري ضد نمط الحياة . هنا يأخذ الإنسان حجمه الطبيعي والمألوف على سطح القماشة. لقد ترجم الأستاذ فخري خليل اسم اللوحة ب(الغجرية النائمة) على الرغم من أن اللفظ باللغة الإنكليزية لا يحدد (sleeping gypsy ) وهو لغز من الغاز العمل الذي وصفه الان باونيس (بأنه تحفة تعذر تفسيرها لرسامي ذلك العصر من الشبان . أنى يكون لهذا الرجل البسيط أن يستشف صورة كهذه؟ لم يكن الموضوع وحده ذا رنين أخاذ ملك الباب السرياليين حسب بل الخصائص الشكلية _ في رسم الإبريق مثلا_ التي بدت كأنها تنبعث من رؤية فهم ساذجة لكنها توحي في الوقت ذاته بالإجابة على مشكلات التمثيل البصري التي طرحها سيزان ).
في لوحته (لوحة شخصية ) يظهر العالم بازاء الفنان بشكل واضح . إذا كان ليوناردو دافنشي في لوحة الموناليزا قد كسر التقليد المتبع في رسم اللوحات الشخصية بخلفيته المثيرة للجدل فان هنري روسو مضى ابعد من ذلك إذ يقف الفنان في اللوحة بكامل قامته حاملا عدة الرسم بثقة وكبرياء تاركا التفاصيل (الحياة) التي تحيطه على خلفية اللوحة وكأنها تفاصيل ثانوية مكملة لوجود الفنان الذي تحتفل به اللوحة، هنا يتكرر الخطاب ذاته : البراءة المتعالية .. التي كتبها هذا الفنان على صفحة نائية من صفحات الوعي الإنساني.
في لوحته (كرنفال ) رومانسية ساحرة وغريبة ، هذه الأشجار تحرس الاحتفال الحلمي المخفي في ليلة قادمة من كوكب منعزل حيث يبدو كيانه الطفولي ـالذي يحتل فضاء القماشة في لوحاته النهاريةـ وكأنه ينسل من مساحة اللوحة تاركا جذوعا و أغصانا واهية تكشف عن هذا الأفق الساهم وكأن المساء هنا كائن وحيد كسب تعاطف هنري روسو فسمح لأشجاره وغاباته أن تدخله إلى احتفاله الخاص البعيد عن الصخب. أي طفل غريب هذا الذي يقيم كرنفاله في الليل!
يشير مؤلف كتاب picture history of art "(إلى أن قيم البراءة وقوة المشاعر التي حققها هنري روسو في لوحاته، و التي ناضل غوغان لتحقيقها باعتبارها ضرورية للفن المعاصر. حققها دون أن يكترث بها. كان يظن نفسه واقعيا ولكن لحسن الحظ فان واقعيته بالنسبة لنا كانت حلما رومانسيا . إن إنجاز هنري روسو يجعلنا نعتقد بأنه عرّاب فن القرن العشرين).

 


 (الغجرية النائمة)

 


( اكسوتيكا )

 


(كرنفال )

 


(لوحة شخصية )



المصادر:

1 الفن الاوربي الحديث ، الان باونيس، ترجمة فخري خليل
2 picture history of art from cave painting to modern time
w. H Janson & Dova Jane Janson

 

 

رجوع